تُعَدُّ الترجمة الرشيدة، والتى هى جسر بين ثقافتين، حدثا إنسانيا رفيعَ الشأن؛ فنقلُ النصِّ القيمِّ، بشروط النقل السليم، إنما يؤثر فى ثقافة أهل اللغة المنقول إليها، سواءٌ على مستوى بِنْيَة الثقافة ذاتها أو على مستوى التعبير وارتقاء الأساليب وزيادة المفردات، فضلا عن أنه من شأن التواصل للنقل السليم أنْ يُثْمِرَ رحابةً فى الرؤية وغِنىً فى الفهم وتزکيةً لروحِ النقدِ وثَراءً فى المعرفة مع ما يصاحب ذلک من جهود معجمية متخصصة ومن دراسات مقارنة عديدة ومن توثيق ضرورى للنصوص؛ فيِتَمُّ بذلک الاقتراب حثيثا من "المشترک الثقافى" فى وَحدةٍ تُؤلِّفُ بين العقول والأفئدة. بَيْد أن فعل الترجمة ذاته غالبا ما يؤدى إلى نتائج بالغة الأثر فى ثقافة أهل اللغتين معا : اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها معا؛ فلا تظهر الترجمة ذات بُعْدٍ واحدٍ بل قد يکون لها تجلياتها فى اللغة المنقول منها کذلک، فثمت دَيْنٌ سرعان ما يِتَمُّ الوفاء به لحساب النص الأصلى. وشواهد التاريخ الثقافى حافلةٌ بالأمثلة المؤيدة لذلک : إذْ سرعان ما يخضع النص المنقول لقراءات متعدِّدة عند أصحابه الجُددِ الذين قد يعيدون إنتاجَه بما يجعل له حياةً متجدِّدةً فى التاريخ، کما تتفاوت أيضاً حظوظ النصوص المنقولة بتفاوت الاهتمامات الثقافية المتجدِّدة على الدوام؛ فلا تظل للنص المعين نفس القيمة المحورية أو نفس الشهرة والذيوع على نحو ما کان حاصلا له من قبل أو على العکس قد يُکتب لنص ما بعد ترجمته من الشهرة والذيوع ما لم يکن له من قبل ولنا فى ترجمة بودلير لقصص إدجار آلان بو إلى الفرنسية وترجمة فيتزجرالد لرباعيات الخيام إلى الإنجليزية مثالان واضحان على ذلک. وقد تتعدد مع الأيام زوايا الرؤية إلى طبيعة النص وقيمته وإلى تعيين ما هو جوهرى فيه. ولعل أوضح مثال على ذلک "جمهورية أفلاطون" بعد أن ترجمها توماس تيلر Thomas Taylor إلى اللغة الإنجليزية سنة 1804، وترجمها من بعده بنجامين جويت Benjamin Jowett سنة 1871 فأصبحت محور الاهتمام فى العصر الفيکتورى وعند أفلاطونيى کيمبردج من المثاليين، وعند النفعيين من أمثال "جون سيتوارت مل John Stuart Mill " ثم عند المفکرين السياسيين الإنجليز والأمريکيين فى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ممن رأوا فيها تأکيدًا لقيم العدالة والمساواة وللحقوق السياسية للمرأة وتأسيس نظام سياسى قائم على التربية والعمل العام على حين رأى فيها غيرهم بعد ذلک تکريسا للنظام الشمولى وتضييعاً لقيمة الحرية الفردية، کما نجد عند کارل بوبر Karl Poper فى کتابه الشهير عن "المجتمع المفتوح وأعدائه".